كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الطبري في تاريخه: اختلف السلف من علماء امة نبينا محمد صلى الله عليه وآله في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، وقال بعضهم: هو اسماعيل ابن إبراهيم.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: هو إسحاق أوضح وأبين منه على صحة الأخرى.
إلى أن قال: وأما الدلالة من القرآن التي قلنا: إنها على أن ذلك إسحاق أصح فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع زوجتة سارة قال: {إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين} وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له ام اسماعيل ثم أتبع ذلك ربنا عزوجل الخبر عن إجابة دعائه وتبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي.
ولا نعلم في كتاب الله عزوجل تبشيرا لابراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق وذلك قوله: {وأمراتة قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} وقوله: {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم}.
ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله: {فبشرناه بغلام حليم} نظير ما في سائر سور القرآن من تبشيره إياه من زوجته سارة.
وأما اعتلال من اعتل بأن الله لم يأمر بذبح إسحاق وقد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته وولادة يعقوب منه من بعده فإنها علة غير موجبة صحة ما قال، وذلك أن الله تعالى إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي وجائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه.
وكذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا بالكعبة وذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك، انتهى كلامه.
وليت شعرى كيف خفى عليه أن إبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد عند مهاجرته إلى الشام وعنده سارة ولا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله: {رب هب لى من الصالحين} فسأل ربه الولد، ولم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتى تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنما قال: {رب هب لى} ولم يقل: رب هب لى من سارة.
وأما ما ذكره أن المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضا.
فمع ما سيجئ من الكلام عليه في سائر الموارد التي أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإن الله سبحانه في هذه الآيات لما ذكر البشارة بغلام حليم ثم ذكر قصة الذبح استأنف ثانيا ذكر البشارة بإسحاق ولا يرتاب المتدبر في هذا السياق أن المبشر به ثانيا غير المبشر به أولا فقد بشر إبراهيم عليه السلام قبل اسحاق بولد له آخر وليس إلا اسماعيل، وقد اتفق الرواة والنقلة وأهل التاريخ أن اسماعيل ولد لابراهيم قبل اسحاق عليهم السلام جميعا.
ومن ذلك التدافع البين فيما تذكره التوراة من أمر اسماعيل فإنها تصرح أن اسماعيل ولد لابراهيم عليهم السلام قبل أن يولد له اسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاما وان إبراهيم عليه السلام طرده وامه هاجر بعد تولد اسحاق لما استهزأ بسارة ثم تسرد قصة إسكانهما الوادي ونفاد الماء الذي حملته هاجر وعطش اسماعيل ثم إراءة الملك إياها الماء، ولا يرتاب الناظر المتدبر في القصة ان اسماعيل كان عندئذ صبيا مرضعا فعليك بالرجوع إليها والتأمل فيها، وهذا هو الذي يوافق المأثور من أخبارنا.
6- القرآن الكريم يعتنى أبلغ الاعتناء بقصة إبراهيم عليه السلام من جهة نفسه ومن جهة ابنيه الكريمين إسماعيل وإسحاق وذريتهما معا بخلاف ما يتعرض له في التوراة فإنها تقصر الخبر عنه بما يتعلق بإسحاق وشعب إسرائيل، ولا يلتفت إلى اسماعيل إلا ببعض ما يهون أمره ويحقر شأنه، ومع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لابراهيم عليه السلام أن نسلك الباقي هومن إسحاق، وتارة أخرى خطابه أن الله بارك لنسلك من عقب اسماعيل وسيجعله امة كبيرة، وتارة تعرفه إنسانا وحشيا يضاد الناس ويضاده الناس قد نشأ رامى قوس مطرودا عن بيت ابيه، وتاره تذكر ان الله معه.
وبالتأمل فيما تقدم من قصته عليه السلام في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين أشكل بهما على الكتاب العزيز.
الإشكال الأول ما ذكره بعض المستشرقين أن القرآن في سوره المكية لا يتعرض لشأن إبراهيم واسماعيل عليهما السلام إلا كما يتعرض لشأن سائر الرسل من أنهم كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس ويدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة وصلته بإسماعيل وكونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة والملة الحنيفية.
لكن السور المدينة كالبقرة والحج وغيرهما تذكر إبراهيم وإسماعيل متصلين اتصال الابوة والبنوة وأبوين للعرب مشرعين لها دين الإسلام بانيين للكعبة البيت الحرام.
وسر هذا الاختلاف أن محمدا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء فلم يكن له بد أن التمس غيرهم ناصرا.
هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لابي العرب إبراهيم وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبله بيهودية إبراهيم فعده أبا للعرب مشيدا لدينهم الإسلام بانيا لبيتهم المقدس الذي في مكه لما أن هذه المدينة كانت تشغل جل تفكيره.
انتهى ملخصا.
وقد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية التي نسبها إلى الكتاب العزيز الذي له شهرته العالمية التي لا يتحجب معها على شرقي ولا غربي فكل باحث متدبر يشاهد ان القرآن الكريم لم يداهن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ولا غيرهم في سورة مكية ولا مدنية ولم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود ولا غيرهم بحسب مكية السور ومدنيتها.
غير أن الآيات القرآنية لما نزلت نجوما بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينيه، وكان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرض لشؤونهم والابانة عن التشديد في قهم لا محالة في الآيات النازلة في تضاعيف السور المدينة كتفاصيل الأحكام المشرعة التي أنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث.
وأما ما ذكراه من اختصاص حديث اتصال اسماعيل بإبراهيم عليهما السلام وبناء الكعبة وتأسيس الدين الحنيف بالسور المدنية فيكذبه قوله تعالى في سورة إبراهيم وهى مكية فيما حكاه من دعاء إبراهيم عليه السلام: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام} إلى أن قال: {ربنا إنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئده من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} إلى ان قال: {الحمد لله الذي وهب لى على الكبر اسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء} [إبراهيم: 39].
وقد مر نظيره في الآيات المنقولة من سورة الصافات آنفا المنبئة عن قصة الذبيح.
وأما ما ذكراه من يهودية إبراهيم عليه السلام فإن القرآن يرده بقوله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون} إلى ان قال: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} [آل عمران 67].
الاشكال الثاني: أن الصابئين وهم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن تعرض إبراهيم عليه السلام لالهتهم بقوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى} إلى آخر الآيات إنما كانوا بمدينة حران التي هاجر إليها إبراهيم عليه السلام من بابل أو من (اور) ولازمه ان يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدة من حجاجه عبدة الأصنام وكسره الأصنام ودخوله النار، ولا يلائم ذلك ما هو ظاهر الآيات أن قصة الحجاج مع عبدة الأصنام والكواكب وقعت جميعا في يومين عند أول شخوصه إلى أبيه وقومه كما تقدم بيانه.
أقول: وهذا في الحقيقة إشكال على التفسير الذي تقدم إيراده في بيان الآيات لا على أصل الكتاب.
ومع ذلك ففيه غفلة عما يثبته التاريخ ويعطيه الاعتبار الصحيح أما الاعتبار فإن المملكة التي ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الاديان الشائعة المعروفة كالصابئية التي كانت يؤمئذ من الاديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها ووجود جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها.
وأما التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنية ببابل ووجود معابد كثيرة فيها بنيت على اسماء الكواكب وأصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ ارض بابل وما والاها ذكر بناء معبد إله الشمس وإله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف ومائتين قبل المسيح، وفي نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس وإله القمر وهو مما يقرب زمن الخليل إبراهيم عليه السلام.
وقد تقدم فيما نقلناه من كتاب الاثار الباقية لابي ريحان البيرونى: أن يوذاسف ظهر عند مضى سنة من ملك طهمورث بأرض الهند، وأتى بالكتابة الفارسية، ودعا إلى ملة الصابئين فأتبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضى ثلاثين سنة من ملك بشتاسف.
وساق الكلام إلى أن قال: وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه ويقولون بحياتها ونطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الانوار، ومن آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق كان مصلاهم، وكان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدى اليهود فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام وأهله فاتخذو ها مسجدا.
وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الاشكال كما ذكرها أبو معشر البلخى في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فإنها منسوبة إلى القمر وبناؤها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمى سلمسين واسمها القديم: صنم سين أي صنم القمر: وقرية أخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة.
ويذكرون أن الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم وأن اللات كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة، انتهى.
وذكر المسعودي أن مذهب الصابئة كان نوعا من التحول والتكامل في دين الوثنية وأن الصبوة ربما كانت تتحول إلى الوثنية لتقارب مأخذيهما، وأن الوثنية ربما كانوا يعبدون أصنام الشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب تقربا بها إلى آلهتها ثم إلى إله الالهة.
قال في مروج الذهب: كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقدون أن الله عزوجل جسم، وأن الملائكة أجسام لها أقدار وأن الله تعالى وملائكتة احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى ان اتخذوا تماثيل وأصناما على صورة الباري عزوجل وبعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود والاشكال، ومنها على صورة الإنسان وعلى خلافها من الصور يعبدونها، وقربوا لها القرابين، ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالبارى تعالى وقربها منه.
فأقاموا على ذلك برهة من الزمان وجملة من الاعصار حتى نبههم بعض حكمائهم على أن الافلاك والكواكب أقرب الاجسام المرئية إلى الله تعالى وأنها حية ناطقة، وأن الملائكة تختلف فيهما بينها وبين الله، وأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر ما تجرى به الكواكب عن أمر الله فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهرا.
فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا لها أصناما وتماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، وكل صنف منهم يعظم كوكبا منها، ويقرب لها نوعا من القربان خلاف ما للاخر على أنهم إذا عظموا ما صوروا من الأصنام تحركت لهم الاجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون، وبنوا لكل صنم بيتا وهيكلا مفردا، وسموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب.
وقد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت زحل، وإنما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظما في سائر الاعصار لأنه بيت زحل، وأن زحل تولاه لأن زحل من شأنه البقاء والثبوت، فما كان له فغير زائل ولا داثر، وعن التعظيم غير حائل وذكروا امورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها.
ولما طال عليهم العهد عبدوا الأصنام على أنها تقربهم إلى الله وألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر يوذاسف بأرض الهند وكان هنديا، وكان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى السند ثم سار إلى بلاد سجستان وبلاد زابلستان وهى بلاد فيروز بن كبك ثم دخل السند ثم إلى كرمان.
فتنبأ وزعم أنه رسول الله، وأنه واسطة بين الله وبين خلقه، وأتى أرض فارس، وذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، وقيل: ذلك في ملك جم، وهو أول من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدمنا آنفا فيما سلف من هذا الكتاب.
وقد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم، والاشتغال بما علا من العوالم، إذ كان من هناك بدء النفوس وإليها يقع الصدر من هذا العالم، وجدد يوذاسف عند الناس عبادة الأصنام والسجود لها لشبه ذكرها، وقرب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل والخدع.
وذكرذووا الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكهم: أن جم الملك أول من عظم النار ودعا الناس إلى تعظيمها، وقال إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب لأن النور عنده أفضل من الظلمة، وجعل للنور مراتب.
ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه من الأشياء تقربا إلى الله بذلك.
ثم ذكر المسعودي البيوت المعظمة عندهم وهى سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل، وبيت على جبل مارس بإصفهان، وبيت مندوسان ببلاد الهند، وبيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم القمر، وبيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة، وبيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس، وبيت بأعالى بلاد الصين على اسم العلة الأولى.